بسم الله الرحمن الرحيم
لكم الله أيها المجاهدون!
للمجاهدين في سبيل الله منزلة رفيعة في القرآن والسنة، والسيرة النبوية الشريفة... ولدى المؤمنين الصادقين، لأنهم باعوا أنفسهم وأموالهم لله، قاصدين رفع راية الإسلام في الأرض، والدفاع عن ضرورات الحياة: وهي الدين والنفس والنسل والعرض والعقل والمال، وعن أرض المسلمين التي هي دار الإسلام ومأواه.
المجاهدون الذين يهجرون الأهل والمال والمسكن... ويخاطرون بأنفسهم، في ساحات الوغى، ويرابطون في ثغور دولتهم، متعرضين لشدائد المرابطة التي لا راحة فيها للأبدان، يسهرون والناس نائمون، ويخافون والناس آمنون، يشوي جلودهم حر الصيف وقيظه، ويقطع أجسادهم برد الشتاء وزمهريره...
3 تشييع الغزاة عند خروجهم للجهاد في سبيل الله:
فقد كان من تكريم المجاهدين في سبيل الله، أن حض صلى الله عليه وسلم على توديعهم عند خروجهم ورغب فيه.
ففي ترتيب المسند: (باب تشييع الغازي، واستقباله، ووصية الإمام له) عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(لأن أشيع مجاهداً في سبيل الله، فأكفه [قال في الحاشية: (بكسر الكاف أي أخدمه وأعينه في حوائجه)] على راحلة غدوة أو روحة أحب إلي من الدنيا وما فيها)
[ الحديث رواه أحمد ز انظر ترتيب مسند الإمام أحمد، المسمّى (بالفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني) لأحمد عبد الرحمن البنا والد الإمام حسن البنا (الساعاتي (14/51) وقال في الحاشية: (تخريجه: جه، ك، وفي إسناده ابن لهيعة وشيخه زبان بن فايد، وكلاهما فيه كلام. ورواه ابن ماجه وغيره ].
والغرض من ذلك تشجيعهم بذكر فضل الجهاد والمجاهدين وإظهار إكرامهم لحفز هممهم وهمم المقيمين على الاستعداد لقتال العدو عاجلاً أم آجلاً [انظر سيرة ابن هشام (4/8،9) وكذلك زاد المعاد (2/173)].
وطبق ذلك خلفائه من بعده:
كما في الموطأ عن مالك عن يحيى بن سعيد أنّ أبا بكر الصديق بعث جيوشاً إلى الشام، فخرج يمشي مع زيد بن أبي سفيان، وكان أمير ربع في تلك الأرباع، فزعموا أن يزيد قال لأبي بكر، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: (ما أنت بنازل وما أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله …) [الموطأ (2/448) رقم 10].
استقبال المجاهدين والترحيب بهم
وكان المجاهدون كذلك ينالون التكريم عند رجوعهم... فيستقبلون استقبالا حافلا، وترحيبا حارا.
وهو حق من حق المجاهدين في سبيل الله على من بقي من المسلمين في البلد، أن يستقبلوهم ويرحبوا بهم، ويشعروهم بالاحترام والتقدير، لما نالوه من مشقة في سبيل الله تعالى وما واجهوا من التعب والمشقة في الحروب، من الجوع والعطش ومفارقة المضاجع والظلال.
ولكونهم أدوا الفرض وأسقطوه عن غيرهم، وهكذا كان السلف يعملون وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بوب لذلك البخاري رحمه الله فقال: "باب استقبال الغزاة" وأورد فيه حديثين: أحدهما حديث السائب بن زيد رضي الله عنه، قال: (ذهبنا نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع) [صحيح البخاري رقم: 3083، فتح الباري (6/191)].
وبينت رواية الترمذي لنفس الحديث أن ذلك كان عند قدومه من غزوة تبوك، وفيه توضيح أكثر للمتلقين (الناس) وهو يدل على كثرتهم وهذا نصه: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يتلقونه إلى ثنية الوداع، قال السائب: فخرجت مع الناس وأنا غلام) [الترمذي رقم الحديث: 2772، تحفة الأحوذي (5/281)].
وقال ابن القيم رحمه الله: فلمادنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه، وخرج النساء والصبيان والولدان يقلن:
طلع البـدر علينـا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعـا لله داع
وبعض الرواة يَهِمُ في هذا، ويقول: إنما كان عند مقدمه المدينة من مكة، وهو وهم ظاهر، لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام... [زاد المعاد (3/12)].
هكذا كان السلف الصالح يعاملون المجاهدين في سبيل الله، يودعونهم عند سفرهم داعين لهم بالنصر والشهادة، ويكرمونهم عند قدومهم بالاستقبال والترحيب، لأن المقياس عندهم هو سبيل الله.
وكانوا إذا فرت طائفة من الجيش الإسلامي وتركته ورجعت إلى المدينة، بسبب ما رأت تلك الطائفة من كثرة العدو وغلبة ضعفها البشري عن التحمل والثبات، كانوا يستقبلون تلك الطائفة بالتأنيب ويَحثُون التراب عليهم، ويعيرونهم بقولهم لهم: يا فُرَّار فررتم في سبيل الله [السيرة النبوية لابن هشام (2/18) والبداية والنهاية لابن كثير (4/248)].
فهل بقي هذا المقياس للتكريم أو التأنيب عند المسلمين؟
لقد انعكست الأمور وانقلبت الموازين واختلت المقاييس وأصبح الخونة الجبناء الذين يبيعون الدين والأرض والشعوب للأعداء الكافرين، هم موضع التكريم وإذا خضع أحدهم لعدو المسلمين فركع له واستسلم وتآمر على شعبه ودينه وأرضه، ثم رجع إلي ذلك الشعب، رأيت غوغاء الناس وهم يركضون لاستقبال الزعيم والتصفيق له كأنهم قطعان من الحيوان، يهتفون بحياته ويثنون على خطواته، ويلقبونه بألقاب الفاتحين الأبطال، وقليل هم الذين يدركون الخيانة ويعرفون الخونة، فتراهم ينظرون إلى تلك الجموع الضائعة متعجبين مشفقين، يدعون لها بالهداية والإنابة إلى الله.
وهؤلاء القليل مغلبون على أمرهم لا حول لهم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، محاصرون من كل جانب لا يملكون أن يوصلوا إلى تلك الجموع الضائعة الخاسرة كلمة الحق عن طريق أقل وسيلة للإعلام، وإذا تجرءوا فقالوا كلمة حق بأي وسيلة اتهموا بالشذوذ والتآمر على مصالح الشعب والخروج عن الصف، وقيل فيهم ما قال أعداء الله من قبل في ذوي الصلاح والهدى والدعوة إلى الله بأنهم خارجون على النظام مفسدون، يريدون القضاء على مكاسب الشعب التي حققها له القادة الأبطال: {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبان بطريقتكم المُثْلى} [طه:63].
وبمقدار ما تُسلط أجهزة الإعلام على أولئك الصالحين لتصفهم بكل أوصاف الذم حتى يظهروا أمام الجموع الضائعة بمظهر الشذاذ المفسدين الذين يجب نبذهم وعدم الإصغاء إلى آرائهم، بمقدار ذلك أو أكثر تكيل تلك الأجهزة المديح والثناء للأبطال المتآمرين حتى يصبحوا هم الملائكة الأبرار، الذين لا يريدون إلا الحق ولا يسلكون إلا سبيل الهداية والرشد، فيرتسم في أذهان الغوغاء أن هؤلاء الضالين المفسدين هم الهداة المهتدون، وأن أولئك المجاهدين الأبرار، هم أهل الغواية والضلال.
وقد سبق هؤلاء الذين يقلبون الحقائق، فيظهرون الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، سبقهم إخوانهم الذين سجل التاريخ عليهم كل تصرفاتهم، فلحقتهم لعائن الله في الأرض وتنتظرهم نقمته في الآخرة.
{وقال فرعون ذروني أقتلْ موسى ولْيَدْعُ ربَّه، إني أخاف أن يبدِّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد} [غافر: 26].
قال فرعون {ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرَّشاد} [غافر: 29]
ومن العجائب المحزنة أن نرى الاحتفاء والتكريم لرفسة كرة قدم ناجحة في ملعب تحضره الآلاف المؤلفة من المشجعين الذين تطرب قلوبهم فرحا، وترقص أبدانهم تعبيرا عن الرضا، رافعين أعلام النصر الكروي... ثم تراهم بعد ذلك يملئون شوارع المدن وميادينها، مزعجين الناس بأبواق السيارات، وصياح الحناجر، وتصفيق الأيدي.. احتفاء بتلك الرفسة المنصورة!
ويتبع ذلك تكريم اللاعبين على أعلى المستويات في الدول العربية، وكأنهم قد أهدوا إلى أمتهم مفتاح بيت المقدس والمسجد الأقصى بعد انتصارهم على اليهود المحتلين!
وجميعهم المكرِمُون والمكرَمون يشاهدون دماء المظلومين المسفوحة، وديارهم المهدمة، وشبابهم المعصوب العينين الذي تركله أقدام اليهود، والنساء المستغيثات السائلات: (وينكم يا عرب؟)
وفي نفس الوقت... ترى أجهزة الأمن في بعض البلدان العربية تطارد المطالبين بمناصرة المظلومين في الأرض المباركة على عدوهم اليهودي المعتدي... تطاردهم أجهزة الأمن أمام المساجد في أيام الجمع، وفي حرم الجامعات... يطاردونهم بالهراوات... والغاز المسيل للدموع... وخراطيم المياه الساخنة... بل وبضباط الكلاب البوليسية ذات الرتب العليا التي تنهش لحوم الغيورين ... يضربون مشايخ العلم ورجال الفكر وزعماء الأحزاب ويهينون كرامتهم، لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر... يطلبون نصر المظلوم وردع المعتدي...!
وتختار أجهزة الأمن تلك من تحترمهم الشعوب، ويستجيبون لندائهم، فيستضيفونهم إلى المعتقلات والسجون، ويسلطون عليهم من دربوهم على التحقيق الظالم الذي تهان فيه كرامات الرجال، ويحقر فيه عظماء الأمة...
وهكذا تجد التكريم والتعظيم للراقصات والمغنيات والممثلات اللاتي تتألق أسماؤهن وأشباههن من الرجال، ويلقبون بالألقاب الرفيعة: النجوم، الرواد العظماء، المبتكرون... وتفتح لهم أبواب الظهور، حتى يصبحوا أئمة الشعوب وقادتها في تحطيم الأخلاق والمعنويات والقضاء على الرجولة الشرف، وهكذا.
والسبب في ذلك أن المقياس عند عامة الناس انقلب من سبيل الله إلى سبيل الشيطان، فكان السلف يكرم أهل سبيل الله لأنه المقياس عندهم، وأصبح المنتسبون إلى الإسلام الآن يكرمون أهل سبيل الشيطان لأنه المقياس عندهم!