حكم المشايخ الذين دخلوا في نصرة المبدلين للشريعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله الطيبين، وأصحابه المجاهدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد...
فعندما قلّ العلم، وتكلّمت الرويبضة، وغابت أعظم مسائل الإسلام، وجهل الناس حقيقة التوحيد، ابتلى الله الناس بأعظم بلاء، وأشدّ عذاب، بأن سلّط الله عليهم حُكاما كفرة، ارتدّوا عن دين الله من جميع أبوابه، فبدّلوا الشريعة، ووالوا المشركين، وقتلوا الموحدين بتهمة الإسلام والإنتماء لجيش محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في دين المشركين فأطاعوهم من كل وجه.
وصار أمر ردة هؤلاء الحكام وطوائفهم من المعلوم ضرورة، ولا يجهله إلا من طمس الله بصيرته، وجهل حقيقة التوحيد الذي بُعث به الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام.
ولما كان الشيطان وأتباعه وجنده ورجله يُنشئ في كل زمان من الشُبه ما يصرف بها الناس عن حقيقة التوحيد، ويلبس حقيقة الشرك حتى يوقعهم فيه، فقد تكلم بعضهم وزعم أن تكفير المبدِّلين للشريعة أمر لم يعرفه الأوائل، وليس هو من باب الردّة الصريحة التي أبان السلف أمرها، وزعم من كان سكوته خيرا من كلامه؛ أنّ هؤلاء الموحدين الذين كفّروا الطواغيت العصرية هم مُحدثون لهذا الأمر، وليس لهم سلف من الأئمة الهداة.
لهذا فإننا نسوق في هذه الورقات فتوى أطلقها الأئمة الذين عاصروا الدولة العُبيدية عندما كانت في المغرب، في حق حكامها ومن دخل معهم من المشايخ والخطباء، الذين خطبوا لهم على المنابر، ودعوا لهم بالتوفيق، وأوهموا الناس أنهم أئمة هدى وعدل، وأنهم في دين الإسلام، ولم يكشفوا للناس حقيقتهم، وأنهم في دين الشيطان.
وقد تركت التعليق عليها وبيان بعض الشُبه التي يوردها بعضهم بعد الإنتهاء من سرد هذه الفتوى كما ذكرها القاضي عياض في كتابه "ترتيب المدارك وتقريب المسالك".
قال القاضي الإمام عياض بن موسى بن عياض السبتي، المتوفى سنة 544 هجرية، في كتابه المذكور، في المجلد السابع / صفحة 274 وما يليها:
أبو بكر إسماعيل بن إسحاق بن عذرة الأنوي:
أثنى عليه ابن أبي يزيد [1] في شبيبته في كتابه معه، لأنه سُئل - أي ابن عذرة - عن خطباء بني عُبيد، وقيل له: إنهم سُنِّية، فقال: (أليس يقولون؛ اللهم صلِّ على عبدك الحاكم وورثة الأرض؟)، قالوا: نعم، قال: (أرأيتم لو أنّ خطيبا خطب فأثنى على الله ورسوله، فأحسن الثناء، ثم قال: أبو جهل في الجنة، أيكون كافرا؟)، قالوا: نعم، قال: (فالحاكم أشد من أبي جهل).
قال عياض: وسُئل الداودي عن المسألة، فقال: (خطيبهم الذي يخطب لهم ويدعو لهم يوم الجمعة؛ كافرٌ يُقتل، ولا يُستتاب، وتحرم عليه زوجته، ولا يرث ولا يورث، وماله فيء للمسلمين، وتعتق أمهات أولاده، ويكون مدبّروه [2] للمسلمين، يعتق أثلاثهم بموته، لأنه لم يبق له مال، ويؤدي مكاتبوه للمسلمين، ويُعتقون بالأداء، ويرقون بالعجز، واحكامه كلها أحكام الكفر، فإن تاب قبل أن يُعزل، إظهارا للندم، ولم يكن أخذ دعوة القوم قُبلت توبته، وإن كان بعد العزل أو بشيء منعه لم تُقبل، ومن صلى وراءه خوفا أعاد الظهر أربعا، ثم لا يقيم إذا أمكنه الخروج، ولا عذر له بكثرة عيال ولا غيره).
ثم قال عياض:
أبو محمد الكبراني:
من القيروان، سُئل عمن أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يُقتل؟ قال: (يختار القتل، ولا يعذر أحد بهذا إلا من كان أول دخولهم البلد قبل أن يعرف أمرهم، وأما بعد؛ فقد وجب الفرار، ولا يُعذر أحد بالخوف بعد إقامته، لأن المقام في موضع يُطلب من أهله تعطيل الشرائع لا يجوز، وإنما أقام فيها من العلماء والمتعبدين على المباينة لهم، يخلو بالمسلمين عدوهم فيفتنونهم عن دينهم).
قال عياض: وعلى هذا كان جبلة بن حمود ونظرائه؛ ربيع القطان، وأبو الفضل الحمصي، ومروان ابن نصرون، والسبّائي، والجبيناني، يقولون ويفتون.
قال يوسف بن عبد الله الرعيني في كتابه: (أجمع علماء القيروان - أبو محمد بن أبي زيد، وأبو الحسن القابسي، وأبو القاسم بن شلبون، وأبو على بن خلدون، وأبو محمد الطبيقي، وأبو بكر بن عذرة -؛ أن حال بني عُبيد حال المرتدين والزنادقة.
فحال المرتدين؛ بما أظهروه من خلاف الشريعة، فلا يورثون بالإجماع.
وحال الزنادقة؛ بما أخفوه من التعطيل، فيُقتلون بالزندقة).
قالوا: (ولا يُعذر أحد بالإكراه على الدخول في مذهبهم، بخلاف سائر أنواع الكفر، لأنه أقام بعد علمه بكفرهم، فلا يجوز له ذلك، إلا أن يختار القتل دون أن يدخل في الكفر).
وعلى هذا الرأي كان أصحاب سحنون يفتون المسلمين.
قال أبو القاسم الدهّاني: (وهم بخلاف الكفار، لأن كفرهم خالطهم سحر، فمن اتصل بهم خالطه السحر والكفر).
ولما حُمل أهل طرابلس إلى بني عُبيد، أضمروا أن يدخلوا في دينهم عند الإكراه، ثم ردُّوا من الطريق سالمين، فقال ابن أبي زيد: (هم كفار، لاعتقادهم ذلك) انتهى [3].
* * *
ظروف الفتوى:
1) الدولة الفاطمية:
تشكلت معالمها الفكرية والعسكرية في المغرب الإسلامي على يد رجل يسمى ميمون القدّاح، وكان داعيا من دعاة الإسماعيلية، وهي طائفة تجعل الإمامة في إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي قسيم الفرقة الموسوية - نسبة إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر –
وسُمّيت بالإسماعلية نسبة لإسماعيل، وتُسمى بأسماء مختلفة مثل السبعية - لقولهم بالأئمة السبعة من علي إلى إسماعيل [+] الحسن بن علي بن أبي طالب –
وتسمى كذلك بالباطنية، لعدة أسباب مجتمعة، منها: باطنية عقيدتهم ووجوب كتمانها، وقولهم؛ إنّ للشريعة ظاهرا وباطنا، وهما مختلفان في الحقيقة، ولقولهم؛ إنّ حق تفسير النصوص الشرعية هو للإمام المستور - إسماعيل بن جعفر - وهي كلها تفسيرات لمعنى واحد.
ميمون القداح؛ ادعى نسبته لمحمد بن اسماعيل - ابن إمام الإسماعيلية - وأنه من أحفاده، فهو ينتهي نسبه فيما زعم إلى فاطمة رضي الله عنها، ولذلك يُطلقون على أنفسهم لقب الفاطميين.
ولعوامل مساعدة، منها؛ عامل الجهل عند بعض طوائف المغرب، استطاع تكوين دولته في المغرب وبسط سلطانه في شمال إفريقية، بعد انحلال دولة الأغالبة [297 هـ، 909 م] ثم خلفه في الحكم ابنه عُبيد الله، الملقب بالمهدي - ولذلك سُميت دولته بالعُبيدية لأنّ كثيرا من المأرخين ينفون نسبتهم لآل البيت، ومن هؤلاء المؤرخين؛ ابن عذاري، وابن تغري بردي، وابن خلكان، والسيوطي، وبعضهم يؤيد النسبة كابن الأثير الجوزي، وابن خلدون، والمقريزي –
أقول:
استطاع عبيد الله أن يكمل تشكيل الدولة العبيدية فكرا وتنظيما وسلطانا، حتى أنه أرسل جيوشه سنة [302 هـ، 914 م] إلى الإسكندرية، وبعدها بعامين؛ اكتسح الدلتا المصرية.
ولوجود المذهب المالكي وسلطانه على عامة أهل المغرب؛ لم يستقر له الحكم هناك، فاتضح له أن المغرب لن يكون مكانا لاسقرار دولته.
وعن طريق المراسلات بين هذه الدولة وبعض القواد العسكريين في مصر، وتمهيد شيوخ الطرق الصوفية واعتقادهم الدعوة المهدوية المزعومة، استطاع جوهر الصقلي - كان يُلقب بالرومي، وقد نشأ مسيحيا ونسبته لجزيرة الصقلية، إحدى جزر البحر الأبيض المتوسط، وكانت قبل الحروب الصليبية خلال تلك الفترة؛ مسلمة، قبل أن تقتلع من أيدي المسلمين –
أقول: استطاع جوهر الصقلي القائد العسكري للخليفة العبيدي - المعز لدين الله - أن يدخل مصر – الفسطاط - سنة [358 هجرية] بلا قتال، بل قد خرج أصحاب العمائم والطرق الصوفية إلى خارج الفسطاط لاستقباله!
فقام بعد ذلك جوهر الرومي هذا ببناء مدينة القاهرة - نسبة إلى نجم سماوي زعموا أنه ظهر عند بنائها، يسمى قاهر الفلك، وهو المعروف الآن بالمريخ –
ثم بنى الجامع الأزهر - نسبة للزهراء، لقب فاطمة بنت النبي عليه الصلاة والسلام - وجعله مركزا فكريا تربويا لتخريج الدعاة الإسماعليين ونشر فكرهم.
خلال حكم العبيديين لمصر انقسمت الإسماعيلية إلى قسمين:
1) نزارية.
2) مستعلية.
وذلك بعد أن نفق الإمام المستنصر سنة [487 هـ، 1094 م]، فاختلف إلى من تكون الإمامة بعده، لابنه الكبير نزار، أم للأصغر أحمد المستعلي؟
أما حركة الحشّاشين في الشرق؛ فأيدت نزار، واستطاع أتباع أحمد المستعلي أن يبسطوا سلطانهم على مصر - الدولة العبيدية - بمساعدة الوزير الفاطمي بدر الجمالي.
وخلال حكم العبيديين لمصر، وبعد أن نفق أحد أئمّتهم - وهو العزيز - [سنة 386 هـ، 996 م]، وتولى ابنه الحاكم بأمر الله - وعمره إحدى عشرة سنة - ظهرت عقيدة الدروز بأنه هو الإله.
وللذكر فإن الإسماعليين الآن هم فرقتان:
الأولى: الأغاخانية - وهم وُراث الإسماعيلية النزارية -
والثانية: البهرة - وهم وراث الطائفة المستعلية -
والعبيديون كانوا خلال حكمهم لمصر؛ يحرصون أشد الحرص أن لا يخالفوا عقائد الناس الظاهرة حتى يستقر لهم ملكهم، بل في عهدهم ظهرت كثير من البدع الدينية لستر عقائدهم وكفرهم الباطني، منها: الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، والإجتماع في الأعياد البدعية - كالنصف من شعبان ويوم عاشوراء - والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جهرا بعد الأذان، والتذكير قبل أذان الفجر بالأناشيد وقراءة القرآن.
بهذه البدع وغيرها وبمساعدة مشايخ الطرق الصوفية؛ استطاعوا إخضاع الناس لحكمهم وتزوير حالهم على كثير من الفقهاء.
أما عقائدهم:
فهم يؤلهون عليا بن أبي طالب ثم باقي الأئمة عندهم - من الحسين إلى إسماعيل والحسن - ويعتقدون فيهم القدرة على التصرف في الأكوان.
ثم هم من المعطلة الغلاة، يقول أحد دعاتهم: (فلا يقال عليه حي، ولا قادر، ولا عالم، ولا عاقل، ولا تام، ولا فاعل، لأنه مبدع الحي القادر العالم التام الكامل الفاعل، ولا يقال له ذات، لأن كل ذات حاملة للصفات).
هم يقصدون بالمبتدع الحامل للصفات؛ هو العقل الأول، كما ذكر الكرماني في "راحة العقل" وهو من أهم كتبهم قديما وحديثا، وقد قام على طبعهم أحد دعاتهم المعاصرين.
وقد تكلم عنهم جماعة من أهل العلم وكشفوا مستورهم الخبيث، ومن هؤلاء؛ أبو الوليد بن رشد في كتابه "الذخيرة في الحقيقة"، وهناك مجموعة من أقوالهم ترجمها الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" عن عقيدتهم في الإمامة، وكثير من أئمة التحقيق ينسبون كتاب "رسائل إخوان الصفا" إلى دعاتهم وأئمتهم، وأنه ألِّف قبل ظهور عبيد الله المهدي في المغرب، وقد أفردهم أبو حامد الغزالي بكتاب "فضائح الباطنية".
وعمدة مذهبهم؛ أنهم لا يثقون بالشريعة ونصوصها، بل يرون أنها منسوخة بظهور النبي محمد بن إسماعيل، فهو قائم الزمان، وقد انتهى إليه علم الأولين، ووقف على بواطن الأمور ومدارك الغيب.
وهم لا يعملون بالشريعة إلا بحسب الحاجة ورعاية مصالحهم عند الجهلة والدهماء، وليس على العارف المستنير أن يعمل بها، وأن الأنبياء الناطقين - تمييزا لهم عن الأنبياء الصمت، ويقال لهم السوس، وهم الأئمة السبعة - إنما وُجدوا لسياسة العامة، وأن الأنبياء الإسماعليين – الصمت - أنبياء حكمة خاصة.
لماذا كفر العلماء العبيديين وخطباءهم، وما هو مناط التكفير؟
لو أمعنا النظر بالفتوى المتقدمة لرأينا؛ أنّ إجماع أهل العلم قد انعقد على تكفير العبيديين وخطبائهم، وقد تعلق حكم التكفير بعلّة خاصة لكل منهما.